فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إذن: سيُردُّ إليك ولدك، لكن سيُرد رسولًا منتصرًا. وكما صدق الله في ردِّ موسى يصدق في ردِّ محمد.
ومعنى {مَعَادٍ} [القصص: 85] ليس هو الموعد كما يظن البعض، إنما يراد به المكان الذي تعود إليه بعد أن تفارقه، فالمعنى: سنردُّك إلى المكان الذي تحِنُّ إليه، ويتعلق به قلبك.
أو نردك إلى {معاد} أي: إلينا، كما قال تعالى: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر: 77] ولا مانع من إرادة المعنيين معًا.
ثم يقول سبحانه: {قُل ربي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بالهدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [القصص: 85] الحق تبارك وتعالى يعلِّم رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم الجدل العفيف، لا الجدل العنيف، يُعلِّمه كيف يردُّ على ما قالوا عن الذي يؤمن به صبأ فلان يعني: خرج عن دين آبائه وهم يعتقدون أنه الحق، فكأن الذي يؤمن في نظرهم خرج من الحق إلى الباطل.
إذن: فهذه عقول تحتاج إلى سياسة وجدل، كما قال سبحانه: {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]؛ لأن الجدل العنيف يزيد خصمك عنادًا ولجاجة، أما الجدل العنيف فيستميل القلوب ويعطفها نحوك؛ لذلك يرد رسول الله بقوله: {قُل ربي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بالهدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [القصص: 85] أي: جاء بالهدى من عند الله وهو النبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [القصص: 85].
ثم يعطي الحق- تبارك وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم دليلًا من واقع حياته؛ ليطمئن على أنه مُؤيَّد من ربه، وأنه سبحانه سيفي له بما وعد، ولن يتخلى عنه، وكيف يختاره للرسالة، ثم يتخلى عنه؟
{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)} يعني: إذا كنت تتعجب، أو تستبعد أنْ نردَّك إلى بلدك؛ لأن الكفار يقفون لك بالمرصاد، حتى أصبحت لا تُصدِّق أنْ تعود إليها، فانظر إلى أصل الرسالة معك: هل كنت تفكر أو يتسامى طموحك إلى أنْ تكون رسولًا؟ إنه أمر لم يكُنْ في بالك، ومع ذلك أعطاك الله إياه واختارك له، فالذي أعطاك الرسالة ولم تكُنْ في بالك كيف يحرمك من أمر أنت تحبه وتشتاق إليه؟
إذن: تقوم هذه الآية مقامَ الدليل والبرهان على صِدْق {لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ} [القصص: 85] وفي موضع آخر يؤكد الحق سبحانه هذا المعنى، فيقول سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولكن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاء} [الشورى: 52] فالذي أعطاك الرسالة لا يعجز أن يحقق لك ما تريد.
وقوله تعالى: {إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} [القصص: 86] هذا استثناء يسمونه استثناء منقطعًا. والمعنى: ما كنت ترجو أن يُلْقى إليك الكتاب إنما ألقيناه، وما ألقيناه إليك إلا رحمة لك من ربك. وما دام هؤلاء الكفار عاندوك وأخرجوك، فإياك أنْ تلين لهم {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيرًا لِّلْكَافِرِينَ} [القصص: 86] أي: معينًا لهم مساندًا، وكانوا قد اقترحوا على رسول الله أن يعبد آلهتهم سنة، ويعبدون إلهه سنة، فحذره الله أنْ يُعينهم على ضلالهم، أو يجاريه في باطلهم، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يناصر ظالمًا أو مجرمًا، حتى إن كان من أتباعه.
وسبق أن ذكرنا في تأويل قوله تعالى: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] قصة اليهودي زيد بن السمين لما جاءه المسلم طُعْمة بن أبيريق، وأودع عنده دِرْعًا له، وكان هذا الدرع مسروقًا من آخر اسمه قتادة بن النعمانَ، فلما افتقده قتادة بحث عنه حتى وجده في بيت اليهودي، وكان السارق قد وضعه في كيس للدقيق، فدلَّ أثر الدقيق على مكان الدرع فاتهموا اليهودي بالسرقة، ولما عرفوا حقيقة الموقف أشفقوا أن ينتصر اليهودي على المسلم، خاصة وهم حديثو عهد بالإسلام، حريصون على ألاّ تُشوه صورته.
لذلك شرحوا لرسول الله هذه المسألة، لعله يجد لها مخرجًا، فأدار رسول الله المسألة في رأسه قبل أنْ يأخذ فيها حُكْمًا؛ وعندها نزل الوحي على رسول الله: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس} [النساء: 105] أي: جميع الناس، المؤمن والكافر {بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] أي: تخاصم من أجلهم ولصالحهم {واستغفر الله إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 106] أي: مما خطر ببالك في هذه المسألة.
وفي بعض الآيات نجد في ظاهرها قسوة على رسول الله وشدة مثل: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} [الحاقة: 44-46].
وكل ما يكون في القرآن من هذا القبيل لا يُقصد به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما الحق سبحانه يريد أن يعطي للأمة نموذجًا يلفت أنظارهم، وكأنه تعالى يقول لنا: انتبهوا فإذا كان الخطاب لرسول الله بهذه الطريقة، فكيف يكون الخطاب لكم؟ كأن يكون عندك خادم يعبث بالأشياء حوله، فتُوجِّه الكلام أنت إلى ولدك: والله لو عبثتَ بشيء لأفعلنَّ بك كذا وكذا، فتوجِّه الزجر إلى الولد، وأنت تقصد الخادم، على حَدِّ المثل القائل إياك أعني واسمعي يا جارة. لذلك يقول بعض العارفين:
مَا كان في القُرآن مِنْ نِذَارةٍ ** إلى النبيِّ صَاحبِ البشَارةِ

فكُنْ لَبيبًا وافْهَم الإشَارةَ ** إيّاك أعني واسْمعِي يَا جَارة

يعني: اسمعوا يا أمة محمد، كيف أخاطبه، وأُوجِّه إليه النذارة، مع أنه البشير.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ الله بَعْدَ}.
قوله تعالى: {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ} [القصص: 87] أي: لا يصرفنك ولا يمنعنَّك المشركون {عَنْ آيَاتِ الله} [القصص: 87] أي: قراءتها وتبليغها للناس، وقوله: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [القصص: 87] هذا أيضًا داخل في إياك أعني واسمعي يا جارة لأن رسول الله أبعد ما يكون عن الشرك، وليس مظنة له.
قوله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ} [القصص: 88] كسابقتها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس مظنة أن يدعو مع الله إلهًا آخر {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [القصص: 88] أي: لا معبودَ بحق إلا هو.
ولو كان معه سبحانه وتعالى آلهة أخرى لواجهوه: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْا إلى ذِي العرش سَبِيلًا} [الإسراء: 42] أي: سَعَوْا إليه لينازعوه الألوهية، أو ليتقرَّبوا إليه.
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] الوجه في عُرْفنا ما به المواجهة في الإنسان، وكل شيء يصف به الحق سبحانه نفسه علينا أنْ نصفه سبحانه به، بناءً على وصفه في إطار قوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
فالحق سبحانه له وجه، لكن ليس ككل الوجوه، وهكذا في كل الصفات التي يشترك فيها الحق سبحانه مع الخَلْق، وأنت آمنتَ بوجود الله، وأن وجوده ذاتي، ليس كوجودك أنت.
وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ} [القصص: 88] كلمة شيء يقولون: إنها جنس الأجناس يعني: أي موجود طرأ عليه الوجود يسمى شيء مهما كان تافهًا ضئيلًا. وقد تكلم العلماء في أيطلق على الله تعالى أنه شيء لأنه موجود؟ قالوا: ننظر في أصل الكلمة شيء من شاء شيئًا، فالشيء شاءه غيره، فأوجده؛ لذلك لا يقال لله تعالى شيء؛ لأنه سبحانه ما شاءه أحد، بل هو سبحانه موجود بذاته.
وفي آية أخرى يقول تعالى في عمومية الشيء: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] يعني: كل ما يُقال له شيء موجود سبق وجوده عدم، إلا يسبح بحمد الله، البعض قال: هو تسبيح دلالة على موجدها، وليس تسبيح مقالة حقيقية، لكن قوله سبحانه: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] يدل على أنه تسبيح حقيقي، فكل شيء يُسبِّح بلغته وبما يناسبه.
وقد أثبت الله تعالى منطقًا للطير وتسبيحًا للجبال، ولو فهمتَ لغة هذه الأشياء لأمكنك أنْ تعرف تسبيحها، لكن كيف نطمع في معرفة لغات الحجر والشجر، ونحن لا نفهم لغات بعضنا، فإذا لم تكن تعرف مثلًا الإنجليزية، أتعرف ماذا يقول المتحدث بها لو سبّح بها الله وهو بشر مثلك يتكلَّم بنفس طريقتك وبنفس الأصوات؟
لذلك يقولون في معجزاته صلى الله عليه وسلم: سبَّح الحصى في يده، والصواب أن نقول: سمع رسول الله تسبيح الحصى في يده، وإلاَّ فالحصى يُسبِّح في يد رسول الله، ويُسبِّح في يد أبي جهل. ومن ذلك أيضًا حنين الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ألم يقل الحق سبحانه: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [النحل: 68].
ألم يَقُلْ عن الأرض: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5]؟ ألم يُثبت للنملة كلامًا؟ ألم يكلم الهدهد سليمان عليه السلام، وفهم منه سليمان؟
إذن: لكل جنس من المخلوقات لغته التي يفهمها أفراده عن بعض {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] وإنْ شاء الله أطلع بعض خَلْقه على هذه اللغات، وأفهمه إياها.
ومعنى: {هَالِكٌ} [القصص: 88] البعض يظن أن الهلاك خاصٌّ بما فيه روح كالإنسان والحيوان، لكن لو وقفنا عند قوله تعالى: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].
إذن: فالهلاك يقابله الحياة، فكل شيء يهلك كانت له حياة تناسبه، وإنْ كنا لا نفهم إلا حياتنا نحن، والتي تذهب بخروج الروح.
ومعنى: {إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] أي: إلا ذاته تعالى، ولم يقُلْ: إلا هو؛ لأنه تعالى ليس شيئًا، وللوجه هنا معنى آخر، كما نقول: فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجه الله يعني: فعلت والله في بالي، فالمعنى: كل شيء هالك، إلا ما كان لوجه الله، فلا يهلك أبدًا؛ لأنه يبقى لك وتنال خيره في الدنيا وثوابه في الآخرة.
ثم يقول سبحانه: {لَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88] أي: له الحكم في الآخرة يوم يقول: {لِّمَنِ الملك اليوم} [غافر: 16] لكن لماذا خصَّ الملك يوم القيامة، وهو سبحانه له الملْك الدائم في الدنيا وفي الآخرة؟ قالوا: لأن هناك مُلْكًا في الدنيا، يُملِّكه لخَلْقه، كما قال سبحانه في النمرود: {أَنْ آتَاهُ الله الملك} [البقرة: 258] وقال سبحانه: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26].
إذن: فالملْك مُلْك الله، وهو سبحانه الذي يُملِّك خَلْقه في الدنيا دنيا الأسباب، لكن في الآخرة تُنزع الملكية من أيِّ أحد إلا لله وحده. حتى إرادة الإنسان على جوارحه تُسلَب منه، فتشهد عليه بما كان منه في الدنيا.
وإنْ أردتَ أن تعرف الآن صِدْق هذه المسألة فانظر إلى الأمور القدرية التي تجري عليك، كالمرَض وكالموت وغيرها، هل تستطيع أن تتأبى عليها؟
ثم يقول سبحانه: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88] أي: للحساب في الآخرة؛ لأن الله تعالى لم يخلقنا عَبثًا، ولن يتركنا هملًا، بل لابد من الرجوع إليه ليحاسب كلًا منكم على ما قدَّم، وما دُمْتم قد عرفتم ذلك، فعليكم أن تحترموا المرجع إلى الله، وتنظروا ماذا طلب منكم.
والمتتبع لهذا الفعل في القرآن يجد أنه جاء مرة مبنيًا للمجهول {تُرجعون} وهو للكافر الذي تأبَّى على الله، فنقول له: ستُرجع إلى الله، وتٌقذف في النار غَصبًا عنك، ورَغْمًا عن أنفك، فإنْ تأبَّيْتَ على الله في الدنيا، فلن تتأبَّى عليه في الآخرة، ويأتي مبنيًا للمعلوم {ترجعون} وهو للمؤمن الذي يشتاق لثواب الآخرة فيتهافت بنفسه ويُقبل عليه. اهـ.

.قال الثعلبي:

{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى} كان ابن عمه لأنّه قارون بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب، وموسى بن عمران بن فاهث، هذا قول أكثر المفسرين، وقال ابن إسحاق: تزوّج يصهر ابن فاهث شميت بنت تباويت بن بركيا بن يقشان بن إبراهيم فولدت له عمران بن يصهر وقارون ابن يصهر، فنكح عمران نجيب بنت سمويا بن بركيا بن رمنان بن بركيا فولدت له هارون ابن عمران وموسى بن عمران عليهم السلام، فموسى على قول ابن إسحاق: ابن اخي قارون وقارون عمه لأبيه وأُمه، قال قتادة: وكان يسمّى المنوّر لحسن صورته ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة منه، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري.
{فبغى عَلَيْهِمْ} أخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا موسى بن محمد، قال: حدّثنا الحسن بن علوية، قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى، عن المسيّب أنّ قارون كان من قوم موسى {فبغى عَلَيْهِمْ} قال: كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل وكان يبغي عليهم ويظلمهم، قال ابن عباس: كان فرعون قد ملّكه على بني إسرائيل حين كان بمصر، سعيد، عن قتادة: {بغى عَلَيْهِمْ} بكثرة ماله وولده، سفيان عنه: بالكبر والبذخ، عطاء الخراساني وشهر بن حوشب: زاد عليهم في الثياب شبرًا {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ} وهي جمع المفتح، وهو الذي يفتح به الباب {لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة} أي لتثقل بهم إذا حملوها لثقلها، يقال: ناء ينوء نوْءًا إذا نهض بثقل، قال الشاعر:
تنوء بأخراها فلأيا قيامها ** وتمشي الهوينا عن قريب فتبهر

واختلفوا في مبلغ عدد العصبة في هذا الموضع، فقال مجاهد: ما بين العشرة إلى خمسة عشر، قتادة: ما بين العشرة إلى أربعين، أبو صالح: أربعون رجلا، عكرمة منهم من يقول: أربعون، ومنهم من يقول: سبعون، الضحّاك عن ابن عباس: ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل: ستون.
روى جرير، عن منصور، عن خيثمة، قال: وجدت في الإنجيل أنّ مفاتيح خزائن قارون توقر ستين بغلا غرّاء محجّلة، ما يزيد منها مفتاح على أصبع، لكل مفتاح منها كنز، مجاهد: كانت المفاتيح من جلود الإبل، ويقال: كان قارون أينما ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه، وكانت من حديد، فلمّا ثقلت عليه جعلت من خشب، فثقلت عليه فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع، وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلا.
وقال بعضهم: أراد بالمفاتيح الحرَّاس وإليه ذهب أبو صالح. وروى حصين، عن أبي زرين قال: لو كان مفتاح واحد لأهل الكوفة كان كافيًا إنّما يعني كنوزه، فإن قيل: فما وجه قوله: {لَتَنُوءُ بالعصبة} وإنّما العصبة هي التي تنوء بها، قيل فيه قولان: أحدهما يميل بهم ويثقلهم حملها، والآخر قال أهل البصرة: قد يفعل العرب هذا، تقول للمرأة: إنّها لتنوء بها عجيزتها، وإنّما هي تنوء بعجيزتها كما ينوء البعير بحمله، وقال الشاعر:
فديت بنفسه نفسي ومالي ** وما آلوك إلاّ ما أطيق

والمعنى فديت بنفسي ومالي نفسه، وقال آخر:
وتركب خيلا لا هوادة بينها ** وتشقي الرماح بالضياطرة الحمر

وإنّما يشقي الضياطرة بالرماح، والخيل هاهنا: الرجال.
{إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ} من بني إسرائيل {لاَ تَفْرَحْ} لا تأشر ولا تمرح، ومنه قول الله سبحانه: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} وقال الشاعر:
ولست بمفراح إذا الدهر سرّني ** ولا جازع من صرفه المتحول

أراد: لست بأشر؛ لأن السرور غير مكروه ولا مذموم {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين} الأشِرين البطِرين المتكبِرين الذين لا يشكرون الله سبحانه على ما أعطاهم.